صورة ُ الحاجّ في الخمسينيّات

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
26/10/2009 06:00 AM
GMT



استهلال :  لا ُبدّ من سترة ٍ صيفيّة ٍ بيضاء، وبنطال رمادّي ٍ ماركة سيرج.
             لا ُبدَّ من علبة دخان بلاييرز ، وجريدة، ونشرة أخبار.
             لا ُبدَّ ، أيضاً ، من أغنية في البال ، أو بيت شعر.
             هذا هو الحاج في أماكنه ِ المألوفة : العمل في الكمرك ، والغداء في مطعم" شريف وحداد" ، ثم
             استراحة البيت .
            هو الآن يتهدّجُ مستعيداً بيتين أثيرين لديه من قصيدة ٍللجواهري:
            سلام ٌ على مثقل ٍ بالحديد     ويشمخ ُ كالأسد ِ الظافرِ
            كأنّ القيود َ على معصميه    ِ مفاتيح ُ مستقبل ٍ زاهر ِ
            ويتذكرّ ابنه ُ السجين ..
       
1- باب ُ السيف
 
السّيفُ هو الساحل.
هناك في باب السيف على مواجهة مقهى الشريعة، حيث ُ تلعب ُ القوارب، وتحلّق ُ النوارس بحثاً عن صيد ِ. هناك يسافر القلب ُ عابراً النهرَ، ثمّ آيبا ً إلى مأواه في البيت العالي، عند الشرفةِ الخشبيّة وهي تنتظر المغيب.
رائحة ُ الدخان العطرة في الغرفة العريضة ،بزجاج شبابيكها الملونّ أزرق أصفر ورديّ ، تتناغم مع نشرة الأخبار من الراديو الكبير.
 للسجائر أناقة ٌ ما، بلاييرز بصورة البحاّر، تبعثُ نكهة ً من الدفْء والرفاهية. نوعا ً من الوفرة والإطمئنان.
هناك وُلِدت عاملة، وامتلأت رائحةُ البيت بعطور الأعشاب والبودرة. أعطى الحاجُ القابلة َ مريم سلطان أضعاف َ ما يمنحهُ بيتٌ آخر. لماذا اختار لها هذا الإسم؟
للإختيارِ علاقة ٌ بالراديو، أي بالسياسة،حينَ كانت السياسة ُ خطراَ نهايته السجن. إختيارٌ مُبطنّ بالتضحية. كان رجُلَ خيال ِ. عندما شكت الأمّ ابنها " بدأ يعمل في السياسة" قال : طيّب. أصبح رجلا ً. ثمّ يميّزُ الإمام الحسين: لأنّه كان ثائرا ً على الطغيان.
تلك الأيام كانت هذه ثقافة الرجل،  مشاعر واختيارات. أن تجد في الدين قيمة ثورية لترجيح كفة الفقراء على الظلم، لتبدأ كلمة معارضة. كلمة مكهربة بالتخفي والليل والإنصات، وكثيراً ما بأناشيد واحتجاج، حتى اختلطت ذكرى الشهيد بتأنيب يومّي وزمجرة عامّة. يا لذلك المجد!  في الأقل كان بإمكان الرجل دخول السجن بكرامة في ضوء النهار، (أعتقل في سجن أبو غريب بتهمة تسهيل هروب إبنه من سجن الكوت) وهو يزدهي بإحساس بطولي. في الأقل كان له وقعه الإجتماعي، وبوسعه اختيار طريقه حتى لو كان وعرا ً. في الأقل لم يُستخدم بعد المنشار الكهربائي لتقطيع الضحايا البشرية، ولا سّم الثاليوم، ولا التصفية.
 
 
2- كزبرة جلد
 
نهاراتٌ واضحة مزّينة ٌ بالضوء والحمام والأغاني. . كل تلك الأغاني السعيدة عندما يبدأ مفعول الكأس مع رائحة الكباب . فتنة من المجاملة والخدود المحمّرة ومذاقات الصداقة. فالأغنية رسالة ٌ قلبية من كل العشاق الى كّل المعشوقين ، من المنكسر إلى حبيبه ، من الفقير إلى ربّه ِ، ومن المظلوم إلى ظالمه ، لكنّها ، دائما ً، مصحوبة ٌ بأنين ارتياح. إرتياح التنفيس عن الحسرة ، إرتياح الغاية، أن يقول ما في قلبه ، في المجاز وبلغة موسيقى، بإيقاع روحّي ٍ ، من إنسان إلى آخر، أو إلى فكرة ٍ أو أمنية. الأغنية ُ إذا ً شهقة ٌ أو زفير . حسرة ٌ أو شقشقيّة . ُحرمة ٌ أو حليّة. تدخل مثل قشعريرة خفية إلى جسدك ، إلى خلاياك.
يقول الأب : كلّما أسمع هذه الأغنية يكزبر جلدي.
كان ذاك في الشرفة المضرّجة بالمغيب، يرنو إلى قارب بخارّي شق النهر نصفين، وأثار موجات متتالية ٍ،  لتتراقص كل قوارب الشاطئ. قوارب الصيادّين المتشابهة برؤوسها المدببة ومجاذيفها الخشبية الزرقاء.
كان جلده يكزبر عندما ينتشي بأغنية لها علاقة ٌ أو حساسية بمكمن من حياته. أما بعد اعتقاله فكانت الكزبرة ترافق النشيد الثورّي. رجل ُ يكزبر جلده عند كل منعطف عاطفيّ ٍ أو ظلم. وصارت كزبرة الجلد رفيقة الأغاني الجريحة ، ببلادها البعيدة وسنواتها الضائعة. تأتي مثل دوّي ٍ في أعماقه. الدوّي الغامض الذي لا يعرفه أحد كما يعرفه هوالذي يميّز وقعه الإجتماعي، لينطوي على مذاق خاص. مزيج من الألم في موقف عزّ ٍ وخلاصة تجربة تضعه في مكان ما، مكان ٍ وعر.  
 
3-  .. والضحى   
  
لم يقطع الجسر مشيا ً، استأجر قاربا ً عبر به إلى الضفة الأخرى، عند مقهى الشريعة  الأخضر، بمراوحه السقفية العالية ونوافذه المفتوحة على الماء. رجلٌ شديد العلاقة بالصيف والأناقة. كان صباحا ً رائقا ً، كان ضحى مضاء ً بالأحاديث. كان باعة ٌ ومسبّحون َ ومرايا على الجدران وساعة ٌ كبيرة. الحاج يومئ ُ لصبيّ المقهى ذي الإبتسامة التي تشبهُ عفوية الصباح. أسياخ ُ اللحم المشويّ ثم الشاي، فالسيكارة. في الكلام إشارات، دلالات ٌ ومعان مبطنة . منها أن تكنّي عن جهة ٍ أو فئة ٍ، وترمز لشخص أو مكان. كأن تقول : جوّه ! وتعني السجن. منها أن تقول نصف ما تريد وتستعين بالإشارة، ومنها الهمس. لعبة ُ ذكاء ليس باعثها الوحيد الحذر، بل ترك فسحة لمحدثك لكي يخمّن. قضبان وأناشيد وأحزاب: كلمات ٌ تضيئ ُ الرهبة، لكنّها تشجع رجولة ً فيه ليقول ما لا يُسمح به.
الهواء يسخن وتشتعلُ شمسٌ. يوعز الأبُ لكاتبه أن يسجل البضائع َ والفواتير في الدفتر الضخم الذي يجثم على صدر المكتب الخشبيّ، وشاحنات ُ داخلة ٌ خارجة. رافعة ُ أبي داوود سيدة المشهد وهي دلالة أكيدة على دخول التكنولوجيا البلاد. شمسٌ أذى على العيون. شمس بلا ظل. خوذ حديدية تحبس الرؤوس. مناديل تحت الياقات، وجوقة ٌ من الحمام تتطاير على رصيف النهر بعد كل صخب تلك الظهيرة.
                   .
ثمّ
 إلى مطعم شريف وحداد
هذا هو الحاج علي حيدر في أماكنه المألوفة بين العمل في الكمرك، والغداء في المطعم، واستراحة البيت. زوجتان و19 من الأبناء والبنات:
طالب الطب قُتل َتحت التعذيب في انقلاب شباط 1963 .
والقائد السياسي السابق متقاعد مواضب على الكتابة عن العراق .
أما الشاعر في غربته، فيقاوم عداوة الطقس، والخيانة، تلك التي تبدأ بالأقربين وتنتهي بوطن.
 
 * مالمو- السويد  . صيف 2009
عن " كلام "